لقراءة المقالة السابقة إضغط هنا
و لما استقر حكم الدولة العباسية بالمشرق العربي و انقرض أمر بني امية هناك. أفلت عبد الرحمان بن معاوية. يذكر ابن حيان أن عبد الرحمان بن معاوية الأموي سار حتى اتى افريقية فنزل بها و قد سبقه بعض من بني امية و كان بها يهودي قد صحب مسلمة بن عبد الملك فكان يتكهن له و يخبره بتغلب القرشي و تملكه للأندلس و يرثها عقبة من بعده، و ان اسمه عبد الرحمان و هو ذو ضفيرتين و من بيت الملك، فاتخد الفهري ضفيرتين رجاء أن تناله الرواية، فلما جيء إليه بعبد الرحمان بن معاوية و رأى ضفيرتيه؛ قال لليهودي "هو هذا و انا قاتله" فرد عليه اليهودي: ان قتلته فما هو و ان غلبت عليه فإنه هو".
و ثقل عدد بني أمية في افريقية على ابن حبيب الذي كان يملكها فقام بطرد كثير منهم خوفا على ملكه. ثم تجنى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به فقتلهما و اخد مالا كان مع اسماعيل بن ابان بن عبد العزيز بن مروان. لم انتظم أمر الدولة العباسية بالمشرق العربي و بويع السفاح ثم المنصور بعده كتب إلى عبد الرحمان بن حبيب يدعوه الى الطاعة و البيعة فأجابه و دعا له، و بعث اليه بهدية فيها بزاة و كلاب و ذهب قليل، و ذكر له أن افريقية اليوم اسلامية و قد انقطع السبي فغضب المنصور و كتب اليه يتوعد، و بعث اليه مع ذلك بخلع الإمارة، عندها نزع عبد الرحمان بن حبيب الطاعة و مزق الخلعة على المنبر. فوجد اخوه الياس الفرصة و الدريعة للتخلص منه. فداخل كبار الجند في الفتك به و اعادة الدعوة للخليفة المنصور و اتفق على ذلك مع اخيه الثالث عبد الوارث بن حبيب، فأحس عبد الرحمان منهما بالشر فامر الياس بالمسير الى تونس فأظهر الامتثال ثم جاء لودعه و معه عبد الوارث حيث كان عبد الرحمان مريضا فدخلا عليه و قتلاه على فراشه. لما فتك الياس بأخيه عبد الرحمان فر ابنه حبيب بن عبد الرحمان الى تونس بعد ان طلبوه و لم يظفروا به حيث كان عمه عمران بن حبيب واليا على تونس من قبل ابيه، فلحق به الياس و استولى على القيروان، ثم زحف اليه عمران و حبيب و من اجتمع اليهما، فخرج الياس للقائهم فالتقوا و اقتتلوا ثم اصطلحوا على ان يكون لحبيب قفصة و قسطيلة و سائر بلاد الجريد، و لعمران تونس و سطفورة و الجزيرة، اما لإلياس القيروان و سائر افريقية و المغرب، و تم هذا الصلح عام 138، و عندما سار حبيب الى عمله من بلاد الجريد و ارتحل الياس مع اخيه عمران الى تونس، و لما وصلا لتونس غدر الياس بأخيه عمران و قتله و قتل جماعة من الاشراف معه، و قيل غربه الى الاندلس و عاد هو الى القيروان. ثم بعث بطاعته إلى ابي جعفر المنصور مع قاضي افريقية عبد الرحمان بن زياد بن انعم و صفا له أمر المغرب و ثقل عليه مكان حبيب فاحتال عليه حتى نفاه للاندلس. و اركب معه اخاه عبد الوارث فردهم قاصف من الريح الى طبرقة و كتبو بخبرهم الى الياس. و تسامعت موالي عبد الرحمان و شيعته بابن مولاهم فتسارعوا اليه و انزلوه من السفينةو التفوا عليه و زحفوا به الى تونس فملكوها و خرج الياس لقتالهم فخالفوه للقيروان و ملكوها عليه، فرجع الياس لقتالهم و قد فر اكثر من معه الى حبيبو لما تواجه الجمعان حول القيروان برز حبيب فنادى : يا عم لم نقتل أولياءنا و هم جنتنا ؟ فهلم للمبارزة فأينا غلب هو الملك، فصاح الجيشان بتصويب رأيه، فتقارعا حتى عجب الناس من صبرهما ثم قتل حبيب إلياس و دخل القيروان فملكها اخر عام 138 فكانت ولاية الياس على المغرب و افريقية عام و نصف بعدها مبكها حبيب بن عبد الرحمان. و في هذه السنة استولى عبد الرحمان بن معاوية الاموي على جزيرة الاندلس بعد ان انتزعها من امريها يوسف بن عبد الرحمان الفهري و هو اخو حبيب المذكور آنفا. فقلم بعدة انجازات و بنى المسجد الجامع و القصر بقرطبة و انفق فيه ثمانين الف دينار و مات قبل تمامه. و وفدت عليه جماعة من اهل بيته من المشرق و كان يدعو للمنصور العباسي ثم قطع دعوته و استقل بدولته بالاندلس و اصبحت للملك العظيم لبني مروان و خرجت الاندلس من يومئذ عن نظر صاحب القيروان و عن نظر الخليفة بالمشرق. في تلك الاثناء و استيلاء حبيب بن عبد الرحمان على المغرب اراد الثأر من عمه عبد الوارث لمشاركته في دم أبيه. ففر عبد الوارث الى ورفجومة احدى بطون نفزاو بن لوى من البرابرة فنزل عند كبيرهم عاصم بن جميل و كان كاهنا يدعي النبوة فأجاره ثم نهض اليهم حبيب بن عبد الرحمان فأوقعوا به و هزموه الى قابس. بعدها استفحل امر الكاهن عاصم و انظمت اليه سائر نفزاوة و اشتدت شوكتهم و كان قيامهم أولا بدعوة الخليفة المنصورة. و لما بقى اهل القيروان فوضى بسبب فرار اميرهم لقابس كتب من بها من العرب الى عاصم الكاهن يدعونه للقيام بأمرهم بشرط الدعاء للخليفة العباسي لكنه اتى و قاتلهم فهزمهم و دخل القيروان عنوة و استباح اهلها و خرب مساجدها و دنسها ثم سار إلى حبيب بقابس بعد ان استخلف على القيروان عبد الملك بن ابي الجعد، فقاتل حبيبا و هزمه فلحق حبيب بجبل اوراين و اجاره أهله ثم زحف اليهم عاصم فهزموه و قتلوه و استلحموا جماعة من اصحابه. فقام من بعده عبد الملك بن ابي الجعد بأمر ورفجومة و القيروان حيث كانت هذه الاخيرة في غاية المذلة و الهوان مع البربر الذين كانوا لازالوا لم يتحضروا بعد. ثم زحف حبيب الى عبد الملك فتقاتلا و هزم حبيب و قتل سنة 140 و كانت تلك الوقعة نهاية حكم آل عقبة من المغرب و استطالت جموع البربر على اهل القيروان فقتلوا من بها من قريش و سائر العرب و استحلت الحرمات ما لم يستحله عاصم بن جميل قبلهم حيث كانوا يجعلون من المسجد الجامع مريط لدوابهم و بهائمهم، فاشتد البلاء على أهل القيروان و تفرقوا في النواحي فرارا بأنفسهم. و شاع خبرهم في الآفاق و وصل خبرهم الى ابي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري و هو من رجالات العرب و كان على رأي الإباضية بأحواز طرابلس منكرا لفعل برابرة نفزاوة و قام بالإغارة عليهم فدخل طرابلس و ملكها ثم زحف نحو القيروان عام 141 فخرج اليه عبد الملك بن ابجعد في جموعه لكنه سرعان ما انهزم و قتل، و استولى ابو الخطاب على القيروان و اثخن في جموع بربر نفزاوة من ورفجومة و غيرها ثم ولى على القروان عبد الرحمان بن رستم الفارسي و رجع هو لطرابلس للقاء العساكر القادمة من جهة الخليفة المنصور و لما حصل ذلك اجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب الاقصى فنقضوا طاعة العرب و ولو عليهم عيسى بن يزيد من موالي العرب و سيطروا على مدينة سجلماسة و دخل سائر اهل مكناسة من اهل تلك الناحية في دينهم و اقتطعوا سجلماسة عن نظر الولاة بالقيروان. و من هذا الاجتماع نشأة دولة بني مدرار ملوك سجلماسة لما ارتكب برابرة نفزاوة ما ارتكبوه في القيروان، وصل الخبر للخليفة حيث شكا اليه رجالات من العرب ما حصل بها و استصرخوه على الخوارج و شكوا اليه تسلقهم كرسي الامارة بالقيروان، فوجه المنصور محمد بن الاشعث الخزاعي واليا على مصر و امره باستنقاد افريقيا من البربر فوجه محمد بن الاشعت عمرو بن الاحوص العجلي فخرج اليه ابو الخطاب المعافري و هزمه بسرت قريبا من طرابلسو استولى على عسكره. و رجع ابو الاحوص مفلولا الى مصر، فكتب له المنصور و يأمره بالمسير الى المغرب بنفسه فسار اليه في اربعين ألفا و معه الاغلب بن سالم التميمي فلقيهم ابو الخطاب بسرت ايضا فأوقع به ابن الاشعت و قتله و استلحم جموعه. فوصل الخبر لعبد الرحمان بن رستم بالقيروان فجمع اهله و لح باللباضية بالمغرب الاوسط، اما ابن اللشعت استقر بالقيروان و ضبط المغرب احسن ضبط و افتتح طرابلس و استعمل عليها بن غفار الطائي. اما على طبنة و الزاب استخلف الاغلب بن سالم فخافه البربر. ثم ثار عليه عيسى بن موسى بن عجلان الخرساني و قواد من مضر و نفوه عن القيروان فقفل الى المشرق و اتصل بالمنصور و اخبره ما فعل قواد مضر، فبعث الى الاغلب بن سابم التميمي ثم السعدي الى المغرب، و الاغلب هذا هو جد الاغالبة ملوك افريقيا بعده، و كان من ذوي الشجاعة و الرأي، فدخل المغرب مع ابن الاشعت و انتقل للقيروان و امنها و استقام امره. ثم خرج عليه ابو قرة بن دوناس و التفت عليه زناتة بجهة تلمسان و بايعوه على الخلافة، فاستفحل امره فزحف إليه الاغلب، و لما اقترب منه فر أبو قرة الى المغرب الاقصى فلم يقف الا بطنجة و انتهى الاغلب الى الزاب ثم رجع للقيروان ثم عاد ابو قرة الى وطنه بتلمسان. و في 150 للهجرة خرج الاغلب لقتال الصفرية فتثاقل عنه فريق من الجند و لما اوغل في طلبهم ثار عليه الحسن بن حرب الكندي و كان بتونس و لحق به المتثاقلون من الجند و كلن تثاقلهم عن الاغلب بمكاتبة الحسن اياهم في ذلك. فأستولى الحسن على القيروان، فكتب له الاغلب ان يدخل في الطاعة فرفض الحسن، ثم كتب له الخليفة المنصور ان يدخل في الطاعة فلم يقبل، فسار اليه الاغلب فاقتتلا فانهزم الحسن و فر لتونس و جمع الجيش و رجع فخرج اليه الاغلب الذي اصابه سهم فقتله و قتله معه الحسن ايضا من طرف اصحاب الاغلب. فقام بأمر افريقيا المخارق بن غفار، فتناقلت الولاية من بعده على المغرب من طرف عمر بن حفص الذي عينه الخليفة المنصور مباشرة بعد وفاة الاغلب و يعد عمر بن بن حفص اكثر من أذل الخوارج من البربر و الذي يرجع له الفضل في ارجاع السكينة للمغرب. و جاء بعده شقيقه الاكبر يزيد بن حاتم الذي كان وليا على فلسطين فأصبح واليا على المغرب ثم بعده شقيقه روح بن حاتم.
قيام الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى
بعد تولية يزيد بعام فقط وصل ادريس الأول العلوي إلى وليلي بالمغرب بعد فراره من العباسيين بعد معركة فخ و الذي ساعده على ذلك "واضح" المعروف بالمسكين و كان متشيعا لآل البيت و عندما علم شان ادريس و اتاه للموضع الذي كان مستخفيا فيه بمصر. أراد مساعدته و ارسله مع البريد إلى المغرب فاستقر بوليلي كما ذكرنا عام 172 للهجرة بعد ان اجاره اسحاق بن محمد الأوربي امير قبيلة أوربة من بربر البرانس فأكرمه و جمع البربر على القيام بدعوته و خلع الطاعة العباسية بعد ان عرف عشريته بنسب ادريس و قرابته من رسول الله. ففرحوا به و جعلوه سيدا لهم و بايعوه في الرابع من شهر رمضان من نفس العام.و كانت اوربة اول من بايع ادريس بن عبد الله على الطاعة و الولاء و هي من اكثر القبائل البربرية عدد في المغرب الاقصحى حينها. و تلتها قبيلة مغيلة و صدينة.
و لما بويع ادريس رحمه الله خطب في الناس و قال : "ايها الناس، لا تمدن الاعناق إلى غيرنا، فإن الذي تجدونه من الحق عندنا لا تجدونه عند غيرنا". و كان الإمام مالك رضي الله عنه يفضل العلويين على العباسيين لسبق البيعة لهم قبل ان ينتزعها العباسيون عنوة و يقتلوا خيرة آل البيت. فكان ذلك سببا في نشر ادريس الاول بن عبد الله للمذهب المالكي في المغرب الأقصى. ثم وفدت إليه سائر قبائل البربر من زناتة و زواغة و زواوة و سدراتة و غياتة و مكانسة و غمارة و كافة قبائل المغرب الاقصى. فلما بايعوه و قوي أمره و اشتدت شوكته؛ اتخظ جيشا كثيفا من وجوه زناتة و أوربة و صنهاجة و هوارة و غيرهم و خرج غازيا بلاد تامسنا، ثم زحف إلى بلاد تادلا ففتح معقلها و حصونها، و كلن أهل هذه البلاد لا زالوا على دين اليهود و النصرانية بينما الإسلام بها قليل، فأسلم جميعهم على يده، ثم قفل إلى وليلي مركز حكمه مؤيدا منصورا فدخلها اواخر ذي الحجة من نفس العام الذي دخل فيه المغرب. فاستقر بها شهر محرم من عام 173 ريثما استراح الناس، بعدها مباشرة اتم غزواته على ما تبقى من قبائل البربر التي لازالت على دين المجوسية و النصرانية و اليهودية، و كان بقية منهم متحصنون في الجبال و الاماكن الوعرة و المتحصنة، فلم يزل رحمه الله يجاهدهم في معاقلهم حتى دملوا الاسلام طوعا و كرها اما من رفض الاسلام منهم أباده قتلا و سبيا. و كانت البلاد التي غزاها هذه المرة حصون فندلاوة و مديونة و بهلولة و غياثة و بلاد فازاز، ثم عاد لوليلي و دخلها في منتصف جمادى الثانية من نفس العام.
بعد ان انتهى ادريس رضي الله عنه من غزو بلاد المغرب الاقصى. خرج لغزو مدينة تلمسان و من بها من قبائل مغراوة و بني يفرن في منتصف شهر رجب من نفس العام " 173 هجرية"، فدخل المدينة و أمن أهلها ثم أمن سائر زناتة و بنى مسجد تلمسان و اتقنه و أمر بعمل منبر و كتب عليه "بسم الله الرحمان الرحيم هذا ما أمر به الإمام ادريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم" و ذلك في شهر صفر من عام 174، و قال ابن خلدون : و اسم ادريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد". ثم رجع ادريس رحمه الله الى مدينة وليلي مؤيدا منصورا. لكن هذه الانجازات وصلت اخبارها للخليفة ببغداد و هو هارون الرشيد العباسي، و بلغه ان ادريس قد استقام له أمر المغرب و استفحل امره و كثرت جنوده و فتح تلمسان و بنا مسجدها و انه عازم على غزة افريقية، فخاف الرشيد عاقبة ذلك و انه ان لم يتدارك أمره الآن ربما عجز عنه في المستقبل مع ما يعلم لما له من فضل خاصة محبة الناس لآل البيت. فقلق الرشيد و استشار وزيره يحيى بن خالد البرمكي و قال: ان الرجل قد فتح تلمسان و هي باب افريقية و من ملك الباب يوشك أن يدخل الدار" فأشار إليه وزيره بألا يرسل له الجيوش لبعد المسافة و عظم المشقة، و اقترح عليه أن يرسل إليه رجل داهية يحتال عليه و يغتاله و يستريح منه، فأعجب الرشيد بذلك، فوقع الاختيار على رجل من موالي المهدي والد هارون الرشيد و اسمه سليمان بن جرير و يعرف بالشماخ، و وعده الوزير انه ان اتم مهمته على اكمل وجه سترفع منزلته عند الرشيد، فسار القاتل لإدريس بن عبد الله و اظهر إليه النزوع اليه فيمن نزع من العرب المتبرئين من الدعوة العباسية. فاختصه ادريس رحمه الله و عظمت منزلته لديه. و كان الشماخ فصيح اللسان و ممتلئ بالأدب و البلاغة عارفا بصناعة الجدل، فكان اذا جلس الامام ادريس الى رؤساء البربر و وجوه القبائل، تكلم الشماخ و ذكر فضل أهل البيت و عظيم بركتهم على الأمة و ان ادريس هو الإمام الحق و ليس العباسيين و لا غيرهم. حتى اصبح يلازم ادريس، عندها استغل الفرصة التي كان مع ادريس لوحدهما فأخرج قارورة عطر مسمومة ادعى انه اصطحبها معه في رحلته و ان فيها من جيد الطيب و ان الامام احق بها منه. فلما قبل بها الامام ادريس رحمه الله و شمها؛ صعد السم إلى خياشيمه و انتهى إلى دماغه فغشي عليه، و يقال انه سممه في السمك و قيل في عنب و اله اعلم. عندها قام الشماخ و خرج و كأن شيءا لم يكن و ركب فرسه و هرب. لاحظ الناس غياب ادريس و لما دخلوا عليه فإذا هو مغشي عليه لا يتحرك و لم يعلم أحد ما به. حتى توفي في مساء داك اليوم من شهر بيع الثاني من سنة 177. عندها انتبه راشد مولى ادريس ان الشماخ غير موجود فعلم أنه هو الذي اغتال الإمام. فجاء خبر أن الشماخ على بعد أميال من البلد، فركب راشد في جمع من البربر و اتبعوه و تفرقوا في النواحي طلبا له، فلحقه راشد بوادي ملوية عابرا، فشد عليه راشد بالسيف و ضربه ضربات قطع فيها يمناه و شجه في رأسه، لكن الشماخ نجا بأعجوبة بعد ان هرب و عجز حصان راشد اللحاق به. و يقال ان الناس شاهدت الشماخ ببغداد و هو مبتور اليد. و لما رجع راشد الى منزله قام يتجهيز الإمام رضي الله عنه و دفنه بصحن رابطة عند باب وليلي.
بعد وفاة الامام ادريس لم يترك خلفه ولد ما عدى جارية بربري حاملا بالشهر السابع، فلما فرغ راشد من جهازه و دفنه جمع رؤساء البربر و قال لهم: أن ادريس لم يترك ولدا إلا حملا من امته كنزة، فإن رأيتم ان تصبروا حتى تضع هذه الجارية حملها فإن كان ذكرا احسنا تربيته حتى اذا بلغ مبلغ الرجال بايعناه تمسكا بدعوة آل البيت و ان كان انثى نظرتم لأنفسكم" فقالوا له : أيها الشيخ المبارك ما لنا رأي الا ما رأيت، فإنك عندنا عوض من ادريس تقوم بأمورنا كما كان ادريس يقوم بها و تصلي بنا و تقضي بيننا بكتاب الله و سنة نبيه، و نصبر حتى تضع كنزة مولودها و يكون ما اشرت إليه. و ان وضعت انثى كنت احق الناس بهذا الامر لما لك من علم و دين" فشكرهم راشد على ذلك، و قام بأمرهم حتى ولد ادريس الثاني و بايعوه كما بايعوا اباه ادريس الأول كانت ولادة ادريس في الإثنين ثالث رجب من نفس العام الذي توفي فيه الإمام ادريس الأول. و قد تكفل بيه راشد مولى أبيه و علمه القرآن حتى حفظه و هو ابن ثمان سنين، ثم علمه الحديث و السنة و الفقه و العربية و عبمه الشعر و امثال العرب و حكمها. و أطلعه على سير الملوك و عرفه أيام الناس، و علمه ركوب الخيل و رمي السهام و غيرها من أساليب الحرب. فلم يصل للحادي عشرة من عمره حتى كان جاهز للمبايعة، فبايعه البربر عن طاعة منهم.
و كان ابراهيم بن الأغلب صاحب افريقيا ثد دس إلى بعض البربر الأموال و استمالهم حتى قتلوا راشدا مولاه سنة 186 و قيل 188 و حملوا إليه رأسه. فقام أبو خالد يزيد بن إلياس العبدي بكفالة ادريس الثاني من بعده. و لم يزل على ذلك حتى بايعوا لإدريس فقاموا بأمره، و في القرطاس أن مقتل راشد كان في السنة التي بويع فيها ادريس. و قال البكري الرنسي ان راشدا لم يمت ختى أخد البيعة لإدريس و أن ادريسا كان وافر العقل رفم صغر عمره و كان نبيها و فصيحا مما اذهل عقول الخاصة و العامة، فأخد له راشد البيعة على البربر يوم الجمعة سابع ربيع الاول. لما استقام أمر المغرب لإدريس الثاني و توطد ملكه و عظم سلطانه، وفدت عليه وفود من البلدان و قصد الناس حضرته، و بما دخل عام 189 و فدت إليه وفود من عرب افريقية و عرب الأندلس، فاجتمع إليه منهم نحو خمسمائة فارس من قيس عيلان و الأزد و مذحج و يحصب و الصدف و غيرهم، ففرح بهم ادريس و قربهم منه، و لم تزل الوفود تقدم عليه من العرب و البربر حتى كثر الناس لديه و ضاقت بهم مدينة وليلي.
وصل لإبراهيم بن الاغلب والي افريقية خبر ادريس و ما وصل إليه من قوة، فعزم على تشتيت شمل المغاربة و حرض بعض البربر على ادريس، فكان منهم بهلول بن عبد الواحد و هو من اركان دولة إدريس، فكتب إليه الأغلب و استهواه بالمال حتى بايع هارون الرشيد و انحرف عن ادريس و اعتزله في قومه، فأراد ادريس مصالحته و كتب إليه يحاول ارجاعه عن فعلته. ثم احس ادريس الثاني بانحراف اسحاق بن محمد الأوربي عنه و موالاة لإبن الأغلب، فقام بقتله عام 192، فصفا له المغرب و تمكن سلطانه به. لما كثرت الوفود من العرب على ادريس رحمه الله و ضاقت بهم وليلي، اراد ان يبني مدينة يسكنها هو و خاصته و وجوه دولته، فركب يوما في جماعة من حاشيته و خرج يتخير البقاع فوصل الى جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه ويب هوائه و تربته، فأراد بناء المدينة في سفح الجبل، فبنى بعضا من الدور و نخو الثلث من السور، فأتى سيل من أعلى الجبل فهدم السور و الدور، فتوقف ادريس عن البناء. فقام بتأسيس مدينة فاس عام 182، فبدأ بعدوة الأندلس و بنا بها الجامع المعروف بجامع الأشياخ و أقام فيه الخطبة، ثم انتقل إلى عدوة القرويين و اخد في بناء جامع الشرفاء و أقام فيه الخطبة، ثم شرع في بناء داره المعروفة الآن بدار القيطون، ثم بنى القيسارية إلى جانب المسجد الجامع و أدار الأسواق حوله و أمر الناس بالبناء، و قال لهم: من بنى موضعا أو اغترس قبل تمام السور فهو له" فبنى الناس ذلك شيءا كثيرا و اغترسوا، و وفد عليه جماعة من الفرس من أرض العراق فأنزلهم قرب عين علون. ثم اكمل ادريس بناء السور على عدوة القرويين، و كانت من باب السلسلة إلى غدير الجوزاء. و كانت المدينة في أولها عبارة عن عدوتين منفصلتين لكل منهما سور يحيط بها و لدبينهما نهر يفصل بينهما، و سميت عدوة القرويين بهذا الإسم نسبة لعرب القيروان الذين نزحوا إليها و كان عددهم ثلاثمئة بيت . و سميت عدوة الاندلس بهذا الاسم نسبة لعرب الوافدين من الأندلس و كان عددهم ضخما يقدر بأربعة آلاف بيت. و ذكر ابن غالب في تاريخه ان الامام ادريس لما فرغ من بناء المدينة و حضؤت ابجمعة أول مرة، خطب في الناس و عند انتهائه من الخطبة ختم بالدعاء قائلا: اللهم اني تعلم انني ما اردت ببناء هذه المدينة مباهاة و لا مفاخرة و لا رياء و سمعة و لا مكابرة، و انما أردت أن تعبد بها و يتلى بها كتابك و تقام بها حدودك و شرائع دينك و سنة نبيك ما بقيت في الدنيا، اللهم وفق سكانها للخير و أعنهم عليه و اكفهم مؤنة اعدائهم و أدر عليهم الارزاق و أغمد عنهم سيف الفتنة و الشقاق انك على كل شيء قدير". فأمن الناس على دعائه فكثر الخيرات و البركات. و من محاسن فاس ان نهرها يشقها بنصفين و تتشعب جداوله في دورها و حماماتها و شوارعها و اسواقها، فتطحن بها أرحاؤهم ثم يخرج منه، و قد حمل اقدارها و ازبالها. دون الحديث عن عيون الماء التي تنبع بداخلها و تتجر من بيوتها قال ابن خلدون : انتظمت لادريس الثاني كلمة البربر و زاتة و مخى دعوة الخوارج و اقتطع المغربين عن دعوة العباسيين من سوس الاقصى إلى وادي شلف. و استمر بدار ملكه من فاس ساكنا مجتنيا ثمرته إلى ان توفاه الله اثنان جمادى الثانية عام 213 هجرية، بعد أن عمره 36 عاما و كان سبب وفاته انه اكب عنبا فشرق بحبة منه فمات. و خلف من الولد 12 ذكرا اولهم محمد، عبد الله، عيسى، ادريس، احمد، و جعفر، يحيى، القاسم، عمر، علي، داود، حمزة، و زاد ابن حزم الحسن و الحسين، و ولى الامر من بعده محمد و هو أكبرهم. لما تولى محمد بن ادريس الحكم، قام بتقسيم المغرب بين اخوته و ذلك بإشارة من جدته كنزة. ثم خرج على محمد بن ادريس اخوه عيسى بمدينة ازمور و تبذ طاعته و طلب الأمر لنفسه، فكتب محمد إلى أخيه القاسم صاحب طنجة يأمره بحرب عيسى فامتنع عن ذلك، ثم كتب محمد لأخيه عمر صاحب تيكساس بمثل ما كتب للقاسم فامتثل لأمره و زحف نحو عيسى في قبائل البربر و أمده محمد بألف فارس من زناتة فأوقع عمر بعيسى و هزمه و طرده عن عمله، و كتب لأخيه محمد بالفتح، فشكره على ذلك و ولاه على ما فتحه، و أمره كذلك بالمسير لقتال القاسم الذي عصى أمره أولا، فزحف إليه عمر لطنجة و دارت بينهما حرب شديدة هزم فيها القاسم و استولى عمر على ما بيده من بلاد كما فعل مع عيسى، فتزهد القاسم بعد هذه الحرب فينى مسجدا بساحل البحر قرب آصيلا و اعرض عن الدنيا و أقام يعبد الله إلى لن مات رحمه الله. و اتسعت ولاية عنر بن ادريس و خلصت كاعته لأخيه الأمير محمد إلى ان توفاه الله عام 220 بموضع يعرف بفج الفرس من بلاد صنهاجة فحمل الى فاس و ظفن مع ابيه " و عمر هذا هو جد الاشراف الحموديين المالكين للأندلس بعد بني أمية".
و تولى ابنه علي بن عمر الولاية من بعد ابيه.
ثم توفى محمد بن ادريس و تولى الحكم ابنه علي بن محمد المعروف بحيدرة. و تمت مبايعته و عمره تسعة اعوام و اربعة أشهر فقام بأمره الأولياء و الحاشية من العرب و البربر و احسنوا كفالته و طاعته و كانت أيامه خير أيام. و قال ابن ابي زرع: ظهر لعلي هذا من الذكاء و الفضل ما يقتضيه شرفه، و سار بسيرة أبيه و جده في العدل، فكان الناس في أيامه في أمن و امان، إلى ان توفى في شهر رجب 134 و عهد بالأمر لأخيه يحيى بن محمد. قال ابن خلدون: قام يحيى بن محمد بن ادريس بالأمر و امتد سلطانه و عظمت دولته و حسنت آثار أيامه و استبحر عمران فاس و بنيت بها الحمامات و الفنادق للتجار و بنيت خارجها الأرباض، و رحل إليها الناس من الثغور القاصية" و قال ابن ابي زرع : قصد إليها الناس من الأندلس و افريقيا و جميع بلاد المغرب" لما توفي يحيى بن محمد الذي بني مسجد القرويين في أيامه تولى الأمر ابنه يحي بن يحي بن محمد بن ادريس، فأساء السيرة و بم يكن أهلا للقيادة، فاستولى عبد الرحمان بن ابي سهيل على فاس و قام بأمرها، فكتبت عاتكة زوجة يحيى إلى ابيها علي ين عمر بن ادريس صاحب الريف و السواحل تخبره بما حصل، و استدعاه أهل الدولة من العرب و البربر و الموالي فجمع جيشه و جاء الى فاس فاستولى عليها و لنقطع الملك عن نسل محمد بن ادريس، و بما دخل علي بن عمر مدينة فاس و استقر بها بايعه الناس و دخلت الكافة في طاعته و خطب له على جميع منابر المغرب و استقام له الأمر إلى ان ثار عليه عبد الرزاق الفهري و كان من الخوارج الصفرية، الذي جمع له خلق كثير من البربر من مديونة و غياثة و غيرهم و زحف نحو قرية صفرو و بايعه اهلها ثم زحف بهم الى فاس و دارت بين عبد الرزاق و علي بن عمر الادريسي معركة شرسة انتهت بهزيمة علي الادريسي الذي فر بنفسه إلى بلاد أوربة، فدخل عبد الرزاق فاس و ملك عدوة الاندلس بكنه لم يظفر بعدوة القرويين الذين بعثوا إلى يحيى بن القاسم الزاهد الذي ذكرناه سابقا في حربه مع محمد و عمر بن ادريس الثاني. لما استقل يحيى بن القاسم بالأمر قاتل عبد الرزاق حتى أخرجه من عدوة الأندلس، فدخلها و بايعه اهلها، و خرج بعدها الأمير يحيى لقتال الصفرية فكانت له معهم وقائع كثيرة و لم يزل أميرا على فاس إلى ان اغتاله الربيع ين سليمان عام 292. و جاء بعده يحيى بن ادريس بن عمر بن ادريس. فبايعه الناس و امتد حكمه على سائر المغرب و خطب له في المنابر، و كان يحيى هذا واسطة عقد البيت الإدريسي: اعلاهم قدرا و أبعدهم ذكرا و أكثرهم عدلا و أغزرهم فضلا و أوسعهم علما، و كان فقيها حافظا للحديث ذا فصاحة و بيان، و بطلا شجاعا، قال فيه ابن خلدون : لم يبلغ أحد من الادارسة مبلغه في الدولة و السلطان"
0 تعليقات